4ab1cc3a9fa7c78aشمس الرواياتcb11fa564857645d8a8d515de36efdaf
فصل 00 : ضد كل شئ.بريطانيا .. لندن، 19 أكتوبر 1958مشى دانيال فوق رصيف باهت اللون تغطيه بقع أوساخ قديمة، فيما كانت الفوضى العامة من حوله تتردد في وعيه كضجيج لا ينقطع. ارتدى بدلة رمادية مخططة بخطوط بيضاء رفيعة، أنيقة ومتناسقة، زادتها ملامحه الحادة وشعره الأسود اللامع هيبةً وجمالًا بارزًا. في يده حقيبة سوداء تتخللها لمسة زرقاء خفيفة على جانبها.راح ينظر إلى المقاهي المزدحمة والسيارات العابرة بعينٍ مملوءة بالاشمئزاز، وكأن وجوده بين هؤلاء الناس وصمة لا تليق بمكانته. كان الهواء بارداً، محمّلاً بذرات غبار بنيّ علقت بالسماء الرمادية، بينما حدّق أمامه بعينين نافذتين تنضحان بالحدة والتعالي.وقف باستقامة وسط المارة الذين كانوا يتحركون على جانبيه، انعكس سواد شعره ولباسه وحقيبته على أشعة شمس خافتة تتسلل من وراء الغيوم الداكنة. سمع صوت خطواته ثابتة، رتيبة، كأنها تقيس المسافة بينه وبين غايته بدقة باردة.ألقى نظرة على ساعته التي تتدلى من معصمه الأيمن. كان رباطها أزرق داكناً، يحيط بها إطار أسود يزخرفه نقش رقيق ومتقوس. المؤشر أشار إلى الرابعة وستٍ وعشرين دقيقة مساءً. عندها أدرك أن الوقت يمضي بسرعة، وأن عليه الإسراع نحو الجامعة لتقديم بحثه."متى بدأ هذا الكون أساساً؟ إذا كان الموت ينهي كل شيء، فما قيمة القوانين التي يضعها عبيدٌ ميّتون منذ لحظة ولادتهم؟ أنا الوحيد الذي سيتخطى الموت ويقتله... فلماذا أستعجل السير؟"هكذا همس دانيال لنفسه، والحقد يقطر من كلماته على كل من حوله.كان يرفض كل ما يُسمّى قانونًا أو أخلاقًا. فالوقت في نظره قيد زائف، مخلوق عبثي، بينما الكائنات الحية جميعها محكومة بقدرها منذ لحظة مجيئها. كان الموت بالنسبة له عدواً كونياً ينهش الأحشاء ويتغذى على وجود المخلوقات. وحده، آمن، سيكون فوق الجميع، فوق الموت ذاته. ولشدّة شعوره بالقرف قبض يده بقوة حتى انغرست أظافره في راحة كفه، تاركاً ألمًا طفيفًا أيقظ فيه إحساساً بالتمرّد.عبر إلى ممر المشاة، خطواته ثابتة فوق الخطوط البيضاء الناصعة على الإسفلت. لم يلتفت يميناً ولا يساراً. وفجأة اخترق وعيه صوت مكابحٍ حاد من الجهة اليسرى. لمح سيارة أجرة سوداء من نوع أوستن تنزلق بعنف تاركة آثاراً واضحة لإطاراتها على الطريق.---أطل السائق من نافذته بغضب، كان كهلاً ذا شعر أشيب وشارب كثيف طويل، وصاح: "احذر أيها الأحمق! أنت في وسط الطريق!"توقف دانيال عن السير، رفع رأسه ونظر إليه بثبات: "أنا على معبر المشاة. يبدو أنك نسيت ما تعنيه تلك الخطوط البيضاء، أيها القذر. أستطيع أن أبلغ عنك وأجبرك على دفع ثمن تهورك. أنت المخطئ، يا كهل، كان ينبغي أن تبطئ فور رؤيتك للممر."وقف بعض المارة على الرصيف يترقبون المشهد بفضول، بينما تابع آخرون سيرهم دون مبالاة. غص السائق شفتيه متحسسًا مرارة الإهانة. كان يدرك أن دانيال على حق، فلم يجد ما يقوله سوى أن ينتظر بصمت حتى يواصل طريقه. دانيال من جانبه ألقى عليه نظرة ازدراء باردة، ثم تابع عبور الطريق بخطوات واثقة.---في الأفق، بدا سور عالٍ يتوسطه باب حديدي يقود إلى حرم الجامعة. داخله تسللت إلى ذهنه فكرة حانقة:"مجموعة من الحمقى المتقيدين بقواعد الأخلاق... تمامًا مثل ذلك الكهل الحقير. مجرد تهديدٍ واحد جعل منه ضعيفًا أمام ما صنعه بنفسه. هذه هي الذلّة في أنقى صورها: أن يهين المرء نفسه ليحافظ على بضع قروش يعيش بها."---لكن تيار أفكاره انقطع حين استوقفته فتاة صغيرة أمام البوابة. كانت ترتدي معطفًا بنياً قديماً، يكسو وجهها بعض البقع من الغبار، وتحمل في يدها رزمة أوراق وملصقات انتخابية. ابتسمت وقالت بصوت لطيف متردد: "سيدي، هل تود انتخاب مير جانيس ليكون الرئيس الجديد لقسم العمّال؟"كانت ملامحها بريئة، تحمل بساطةً مشوبة بشقاء واضح. تطلّع إليها دانيال لثوانٍ، ثم همس ببرود: "لا..."تخطاها دون أن يلتفت. تجمدت الفتاة في مكانها للحظة، مستغربة من ردته غير المألوفة. فالمارة اعتادوا أن يأخذوا منها أوراقها حتى لو رموا بها لاحقًا في القمامة. شيء في رده أشعرها بوخزة غريبة في قلبها.لكنها تماسكت، شدّت على نفسها وتنهدت بعمق، ثم عادت لتوزيع الملصقات بابتسامة لطيفة ترتسم رغم التعب على وجهها.---دخل دانيال عبر البوابة الحديدية، حيث وقف عندها حارسان ضخام البنية يفوقان طوله بقليل، وجوههما صلبة وملامحهما مربعة كأنها منحوتة من صخر. امتد أمامه طريق واسع مرصوف يقود نحو مبنى الجامعة، تتناثر على جانبيه حدائق صغيرة تتخللها أرصفة ضيقة، أشجار مصقولة بعناية، وعدة نوافير تتدفق مياهها برشاقة تحيط بها عصافير صغيرة تملأ الجو بزقزقة مبهجة.بضعة طلاب انتشروا في الساحة بدردشات صاخبة تتناوب مع أصوات الطيور، مما أعطى المكان مزيجًا بين الفوضى والسكينة. رفع دانيال رأسه فرأى المبنى شامخًا أمامه، جدرانه العتيقة مزخرفة بزخارف دقيقة ونوافذه العديدة تلمع تحت ضوء باهت، فيما ارتفعت عند المدخل بوابة خشبية ضخمة تقود إلى داخل المبنى.امتزج الهواء برائحة ورود ندية تسللت من الحديقة، لامست أنف دانيال بحنو عابر لم يستطع أن ينال من صلابته.صعد درجات السلم المؤدي إلى المدخل، وعلى جانبيه وقفت مجموعة طالبات يتبادلن أحاديث هامسة عن حادثة انتحار غامضة. إحداهن قالت: "أليست هذه هي الشاب الذي كانت رينا تلازمه في آخر شهر من حياتها؟"فأجابتها أخرى بنبرة شك: "أجل، هو نفسه... لم نره طوال الأسبوع الماضي. لا بد أنه السبب وراء انتحارها بذلك السم الغريب."ترددت الكلمات في ذهن دانيال كصدى بعيد، لكنه لم يلتفت، ولم يبدِ أي اكتراث. كان يعرف أكثر مما يقول، ومع ذلك ظل هادئًا، عابراً بينهم ببرودٍ تام، متقززًا من كل ما يحيط به.دخل عبر البوابة الخشبية ليجد نفسه في قاعة استقبال دائرية واسعة، يخرج منها رواق طويل تتفرع على جانبيه عدة غرف. السقف ارتفع عالياً حتى الطابق السادس، حيث شرفات متدرجة تطل على الفراغ الداخلي. في المقدمة امتد حاجز مبني من الخرسانة الصفراء، وإلى جانبه مكتب استقبال يقف خلفه موظف، بينما في الزاوية بدا درج ضخم يصعد إلى الأعلى.امتلأت القاعة بحركة الإداريين والطلاب، بعضهم يغادر على عجل، وآخرون يتوقفون في مجموعات متفرقة. كان في الهواء رائحة غريبة، أشبه برائحة دواء نفاذة. وبينما يتقدم دانيال بخطوات ثابتة نحو الدرج، لمح مجموعة من رجال الشرطة ينزلون منه بخطوات ثقيلة، يتحدثون همسًا فيما المارة يراقبون بفضول.---وسط الزحام، سمع صوتًا خلفه يخترق الضجيج: "اسمح لي بالمرور، من فضلك!"اندفع شاب نحيل يرتدي نظارات سميكة، شعره مبعثر على نحو غير مرتب، يتسلل بخفة بين الطلاب. اقترب من دانيال مسرعًا وهو يلوّح بيده قائلاً: "دانيال... أنت دانيال كارما، أليس كذلك؟"توقف دانيال والتفت بوجهه فقط، ثم استدار بكامله ليلمح ملامح ذلك الفتى الذي رآه من قبل دون أن يحفظ اسمه.همس الشاب بقلق وهو يقلب بعض الملفات في يده ويعدل نظارته: "أنا جايمس... ندرس معًا في صف علم الأحياء عند الأستاذ داليرد. أظن أنك تعرفني."كان جايمس خجولاً، ملامحه مترددة، حياته تدور بين مقاعد الدراسة وعمله الشاق إلى جانب رعاية والدته المريضة.أدرك دانيال من هيئته المرتبكة أنه يريد شيئًا منه، ولمح في ضعفه فرصة جديدة. ارتسمت على محياه ابتسامة باردة وقال: "بالطبع أعرفك، رأيتك عدة مرات في الصف."مد جايمس يده لمصافحته، لكن دانيال اكتفى بالكلام. داخله كان يهمس بازدراء:"كيف لي أن ألمس قذرًا مثلك وألطّخ نفسي بعبوديتكم؟"ثم تراجع قليلاً وقال بصوت مسموع: "لا داعي... لم أغسل يدي جيدًا. إذا كنت تريد الحديث، فتحدث بسرعة."واصل صعود الدرج بخطوات هادئة. أما جايمس فقد شعر بصدمة محرجة، تراجع وأعاد يده المرتعشة إلى جانبه، بينما أصابعه تتحرك بعصبية. تمتم لنفسه بمرارة: "يالغبائي... لماذا بادرت بالمصافحة؟ لو انتظرت حتى يفعل هو لما أحرجت نفسي هكذا. لكن لا بأس... سأردها لك في وقت لاحق."شد قبضته على ملفاته، ثم لحق به نحو الأعلى قائلاً بتردد: "هل... هل جهّزت بحثك؟ أظن أن دور مجموعتك سيكون اليوم، في الجولة الثانية."---في الوقت نفسه، وعلى شرفة الطابق الثاني، وقف شخص يراقب دانيال بعينين متحفزتين. كان ذاك درام، شاب في الحادية والعشرين من عمره، تمامًا مثل دانيال. ملامحه رقيقة، وجسده نحيل، يرتدي قميصًا أسود يلتصق بكتفيه، لكن في عينيه حقد دفين يشوبه قلق وخوف جليّان."وحش مثلك لا ينبغي أن يبقى طليقًا... لو كنت أملك دليلاً واحدًا عليك، لأدخلتك السجن حتى تُعدم هناك ببطء، كما فعلت بضحاياك البائسين..." تمتم في داخله بمرارة عميقة، كأنها تنهش صدره.---في الأسفل، قطع دانيال صمته وقال ببرود: "ماذا تريد؟ تكلم بسرعة، لا داعي للمقدمات."وفي ذهنه كان يتساءل:"تصرفاته غير واضحة حتى الآن... ما الذي تنوي فعله يا درام؟"أما جايمس، فقد أغلق عينيه لحظة وهو يحاول جمع شجاعته. كان يسمع وقع خطوات دانيال كأنها دقات متلاحقة تخترق وعيه:"لماذا لا أستطيع أن أتكلم بهدوء كالمعتاد؟ هل حضوره طاغٍ إلى هذا الحد؟ مجرد إنسان مثلي، ومع ذلك يزرع في داخلي هذا الاضطراب... حتى أنه اكتشف مباشرة أنني أريد شيئًا منه."صعد الاثنان إلى الطابق الثاني. كان الرواق ممتدًا أمامهما، تضيئه نوافذ كبيرة من الجهة الخارجية، لتغمر المكان أشعة رمادية باهتة انعكست فوق أرضية من بلاط أسود وأبيض متناوب، مما أضفى على الممر لمسة باردة وجامدة. اتجه دانيال نحو الجهة اليمنى حيث تقع قاعة علم الأحياء.أخذ جايمس نفسًا عميقًا، وكأنه يجمع شتات نفسه، ثم قال مترددًا: "في الحقيقة... أريد الحصول على نموذج خشبي لأعضاء الجسم. ستيفن أخبرني أنك تملكه، فأردت استعارة النموذج لفترة قصيرة حتى أجهز بحثي قبل الحصة القادمة."ألقى دانيال عليه نظرة باردة، ثم أجاب ببطء: "عليك أن تدفع مقابل هذا... أو ربما يمكنك الحصول على نموذج حي، وبالمجان."ارتبك جايمس، وعقد حاجبيه متوترًا: "نموذج حي؟ ماذا تقصد؟" قال ضاحكًا بخفة متصنعة يخفي بها قلقه.اقترب دانيال بخطوة، خفّض صوته وقال: "أظنك تعرف أن الخراف هي الأقرب إلينا في ترتيب الأعضاء. وهناك مزارع كثيرة، أصحابها لا يهتمون بحراسة كافية. يمكنك سرقة خروف، ذبحه، وتشريحه. سيكون بحثك أكثر واقعية من أي نموذج خشبي... إذا لم تستطع الدفع."شهق جايمس بصوت خافت، وتصلبت ملامحه: "ماذا؟! تريد مني قتل حيوان بريء لمجرد بحث جامعي؟ هذا مستحيل... لا أستطيع حتى إيذاء حشرة!"ضحك دانيال في داخله ضحكة ساخرة، ثم تمتم في نفسه:"الأخلاق ليست سوى قيود من صنع البشر. لو كانت حقيقية لما اخترعوا الأسلحة لقتل بعضهم. سيظلون عبيدًا للموت مهما طال زمنهم."رفع عينيه وقال ببرود: "المصالح تأتي فوق كل شيء. هل تفضّل أن ترسب بسبب خروف؟ لأفترض أني أملك ما يكفي من المال، كنت سأعطيك النموذج فورًا. لكن إن لم تستطع، فاكتفِ بنموذج ورقي."تشتتت أفكار جايمس، وأحس أن ارتباكه يلتهمه من الداخل:"ما الذي يقوله؟ نموذج ورقي لا يكفي... لا أستطيع تقديم بحثي أمام اللجنة بهذا الشكل. سأستعير منه الخشبي، لكن... بكم؟"لم يحتمل حتى التفكير بفكرة ذبح حيوان، شعر أنها تهدد القيم التي تربى عليها وتهدم أساس شخصيته. ومع ذلك، غُرست الفكرة في ذهنه كشوكة، قد تعود لتؤذيه إن ضاقت به الأحوال يومًا.ابتسم دانيال ابتسامة ساخرة وهمس في نفسه:"لقد تهرّبت مثل الآخرين... مجرد تابع مقيد بأفكاره."ثم قال بصوت عالٍ: "لا تقلق، كنت أختبرك فقط. سأعطيك المجسم الخشبي دون مقابل."---وفجأة اخترق الرواق صوت أنثوي قوي: "انتظرني، جايمس!"كانت فتاة شقراء تركض خلفهما، خطواتها تتردد في كل زوايا الممر كأنها تطارد صدى غير مرئي.التفت جايمس خلفه بفضول، حتى وقعت عيناه على فتاة شقراء تركض نحوه بخفة، فارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة وامتلأ قلبه بسعادة خفية: "مرحبًا... إيلسا!" ناداها بصوت مرتفع، ملوّحًا لها من بعيد.كان يكنّ لها مشاعر عميقة، لكنه لم يجرؤ على الاعتراف بها قط. لم يكن خوفه من الرفض، بل يقينه الداخلي بأنه لا يستحق فتاة جميلة مثلها.---أما دانيال، فقد واصل سيره بخطوات ثابتة دون أن يلتفت، وعيناه تتقدان ببرود:"انجذاب البشر لبعضهم هو ما يجعلهم حمقى. هذا الشاب قبل لحظة كان متحمسًا للحصول على مجسم خشبي، والآن، برؤية فتاة واحدة، تلاشى هدفه من رأسه... عبيد لشهواتهم، يجددون بأنفسهم سلاسلهم." تمتم في داخله باحتقار شديد.---في الوقت نفسه، وفي الطابق السفلي عند مكتب الاستقبال، دخل رجلان يرتديان بدلات أنيقة.الأول كان طويل القامة، شعره بني داكن ينسدل بخفة على كتفيه، في الثلاثين من عمره تقريبًا. ملامحه حادة ووجهه صارم. كان هذا هو المحقق بينسين كورغر.أما الثاني، فكان كهلاً في الخمسين، ببدلة رمادية أنيقة، شعره أسود تغزوه خيوط بيضاء، شارب طويل مشذب بدقة، ونظارات مربعة تزيد من هيبته. كان هذا هو فريد دوساتغافنيد.وقف فريد أمام أحد أفراد الشرطة الذين استجابوا لحضورهم على الفور. تقدم شرطي في الأربعين من عمره، ذو وجه متجهم وصوت حاد: "أظن أن قضايا الاختفاء لم تُسلَّم بعد إلى مكتب التحقيقات، أيها المحقق فريد." قال ذلك بلهجة جافة تعكس رفضه لوجودهم.لكن بينسين قطع الموقف بخطوات ثقيلة، وصوت هادئ خالٍ من الانفعال: "فريد... سأذهب إلى الحمام. اسبقني إلى غرفة الملفات، سألقاك هناك بعد نصف ساعة."اقترب شرطي شاب، يبدو أنه لا يزال جديدًا في عمله، وقال بتردد: "لدينا بالفعل ملفات الطلاب الثمانية المفقودين... لا حاجة لأخذ النسخ الأصلية من الكلية."أجابه بينسين بابتسامة ساخرة وهمس بلهجة واثقة، وهو يغمز بعينه: "حتى أكون صريحًا معك، أنا لا أثق بكم... ربما تتلاعبون بالملفات."رفع الشرطي الكهل رأسه غاضبًا، فصاح: "لحظة! لحظة! من أمرك بالكلام؟!" ثم التفت نحو فريد بنبرة قاسية: "أما أنتم، فمن قال إن القضية انتقلت إليكم؟"ارتفعت حدة صوته أكثر فأكثر، وهو يشعر أن وجوده يُتجاهل وكأنه غير موجود.دقق فريد في شارة الاسم على زي الشرطي وقال بهدوء: "انظر أيها الشرطي... أظن أن اسمك ليام. إن أردت التأكد، فاذهب بنفسك إلى المقر. أما نحن، فوجودنا هنا بحكم صلاحياتنا."وقبل أن يكمل ليام اعتراضه، قاطعه فريد ببرود: "استسمحك، لا وقت لدي لأحاديث بلا فائدة." ثم مضى في الرواق الطويل بخطوات ثابتة.---أما بينسين، فصعد الدرج وعيناه تلمعان بظلال داكنة، يتمتم في نفسه:"ثمانية طلاب اختفوا خلال أربعة أشهر... ثلاثة إناث وأربعة ذكور. اثنان منهم من صف علم الأحياء عند الأستاذ داليرد، إضافة إلى فتاة انتحرت بحقنة دواء غريب. لا بد أن الخاطف شاب من الصف... أو ربما الأستاذ نفسه."ابتسم ابتسامة باردة، وتابع صعوده بخطوات ثابتة نحو قاعة علم الأحياء، وقد اجتاحه شعور غامر بالحماسة. كان مهووسًا بالعدالة إلى درجة أنه يستمتع ببداية كل قضية جديدة كما لو كانت انتصارًا شخصيًا.---أما الشرطي ليام، فقد بقي واقفًا في مكانه، الحنق يعصر صدره. شدّ فكه بغضب وشعر بالمهانة تتغلغل فيه، لكنه لم يستطع فعل شيء. أدرك أنه طالما جاء هؤلاء بثقة وهدوء، فلا شك أنهم كُلِّفوا رسميًا بالقضية. تنهد مريرًا، ثم قال لرفاقه: "فلنتوجه نحو المقر الرئيسي لنتأكد من صحة كلامهم."خطا إلى الخارج، وخلفه بقية الشرطة، كل خطوة منه وسط الفوضى كانت ثقيلة، مفعمة بالعجز. أحس أنه مجرد ظل، مقيد بالقانون، كأنه لا يملك حضورًا حقيقيًا في هذا المشهد.---في تلك الأثناء، كان فريد قد تبع حارسًا نحو مستودع أسفل الجامعة، ثم تركه ومضى. كان الرواق المؤدي إلى المستودع ضيقًا، جدرانه مصبوغة بلون أزرق باهت، بلا نوافذ، يضيئه مصباح أصفر متدلٍ يطلق وهجًا دافئًا يتراقص فوق الزوايا الباردة.توقف فريد أمام نافذة صغيرة إلى جانب باب حديدي، ورفع يده يدق عليها بخفة:طق... طق...فتحت النافذة ببطء، لتظهر امرأة متوسطة العمر، شعرها متهدل على كتفيها، وعيناها مثقلتان بالإرهاق. لم ترفع رأسها، فقد كانت منغمسة في الكتابة على دفتر أسود قديم.كانت تعاني من قلة الدخل، تضطر للعمل في وظيفتين لتعيش حياة بالكاد تكفيها. عملت هنا كحارسة للمستودع حيث تحفظ الملفات، وفي الوقت ذاته كانت كاتبة نسوية، ترفع صوتها مطالبة بحقوق النساء: أجر متساوٍ، حق الانتخاب، والمساواة مع الرجال. كلماتها ألهمت غيرها من النساء للنهوض ضد عبودية وإهانة عصورهن.قالت بصوت مرتفع وهي تواصل الكتابة دون أن تنظر إليه: "ماذا تريد؟".رفع فريد شارته أمام وجهها وأجاب بصرامة: "ملفات الطلاب الثمانية المختفين."بدا عليها اللامبالاة للحظة، لكن عندما رأت شارة المحقق، رفعت نظرها ببطء.قالت ببرود متحدٍ: "لستُ خادمة لك. سأفتح الباب، وأحضرها بنفسك. ستجدها في الرف التاسع، في آخر المستودع."لم يكترث فريد بنبرتها المستفزة، مضى نحو الباب حين فتحته، ودخل. انتشر نور المصباح الأصفر فوق صفوف من الرفوف المعدنية العالية، تفوح من المكان رائحة الورق القديم، باردة، حادة، كأنها تنهش الأنفاس. شعر ببرودة تسري في أطراف أصابعه كلما مد يده نحو الملفات....يتبع...
655da8d92172e17fشمس الروايات4e0312eb561b62844c0791c17b04d73a
91144760f10ca79aشمس الروايات1ee64bfcc055ca6299c5e086276fc444